حاصل على المركز الثالث لجائزة جامعة الدول العربية للقانون والقضاء لعام 2022
المقدمة:
أَدَّى نُمُوّ الْوَعْي لَدَى الْأَفْرَاد وَتُزَايُد الْاِهْتِمَام بِالْقَانُون الدَّوْلِيّ، لاسِيَّمَا فِي مَجَال حُقوق الْإِنْسان، وَتَضَخُّم الْمَرْجِعِيَّة الْقَانُونِيَّة الدَّوْلِيَّة لِلدَّوْلَة، لِتَزَايُد التَّدَخُّل الْقَضَائِيّ فِي الْمَجَال الدَّوْلِيّ عَن طَرِيق تَطْبِيق الْقَوَاعِد الدَّوْلِيَّة ولاسيّما أَمَام تَمَسُك الْأَطْراف الْمُتَنازِعَة بِقَوَاعِد الْقَانُون الدَّوْلِيّ الَّتِي تَضْمَن لَهُم حقوقاً فِي مُخْتَلَف الْمَجَالَات وَفِي مُوَاجَهَة أَطْرافٍ عَدِيدَة: الدَّوْلَة، الْأَفْرَاد وَالْمُؤَسّسَات. فَأَصْبَح مِن الطَّبِيعِيّ جدّاً أَن يُؤَسِّس الشَخصُ اِدِّعَاءَاتِه أَمَامَ الْمَحَاكِم الْوَطَنِيَّة عَلَى الْقَانُون الدَّوْلِيّ، كَمَا أَنّ تَكْريس الْحُقوق الْعَالَمِيَّة الْمَمْنُوحَة لِلْإِنْسان مِن طَرَف مُخْتَلَف الصُّكُوك الدَّوْلِيَّة سَمَحَ بتَدوّيل الْمُنَازَعَة أَمَام الْمَحَاكِم الْوَطَنِيَّة. وَهَكَذَا، يُحَتِّم مَبْدَأ تَدَرُّجِيَّة النُّصُوص الْقَانُونِيَّة عَلَى الْقَاضِي الْوَطَنِيّ، تِلْقائِـيّاً، ضَمَان الشَّرْعِيَّة بِإِزَالَة التَّعَارُض بَيْن النُّصُوص وَمُحَاوَلَة التَّنْسِيق فِيمَا بَيْنَهَا وَحَسْمُ التَّنَازُع الَّذِي قَد يَطْرَأ لِصَالِح الْقَاعِدَة الْأسمى وَإقْصَاء الْقَاعِدَة الْأَدْنَى الْمُخَالِفَة لَهَا مِن التَّطْبِيق، ضَمَّاناً لِلْحُقوق وَالْحُرِّيَّات، فِي نِطَاقِ دَوْلَة الْقَانُون.
تَارِيخياً، لَمْ يَكُن القاضي سِوَى "فَمٍ لِلْقَانُون"، عَلَى حَدّ تَعْبِير مونتيسكيو. وَكَانَ مِنَ الصَّعْب الاعتراف لَهُ بِدَورٍ تَطْوِيري لِلْقَانُون، وَالْأَكْثَرُ صُعُوبَةً تَقَبُّل فِكرَة أَنْ تُسْهِم هَيْئَة تَابِعَة لِنِظَام قَانُونِيِّ فِي التَّأْثِير عَلَى قَوَاعِد نِظَام قَانُونِيِّ مُخْتَلِف؛ عَلَى غِرَار أَنْ يَكُون القاضي الْوَطَنِيّ مُطَـوِّراً لِقَوَاعِد الْقَانُون الدَّوْلِيِّ؛ وَفِي أَحْسَن الْحَالَات تَمّ قَبُول فِكرَة قِيَام الْمُحَاكِم الْوَطَنِيَّة بِاِسْتِقْبَال قَوَاعِد الْقَانُون الدَّوْلِيِّ وَتَطْبِيقهَا (وَلَكِن لَيْسَ تَطْوِيرِهَا)[1].
وبعد أن كان استعمال القانون الدّولي قبل المحاكم الوطنيّة نادراً، أَصْبَحَتِ الْمُحَاكِمُ الْوَطَنِيَّةُ تَتَعَامَلُ بِشَكْلِ رُوتِينِي، مُتَزَايِد وَلَافِتٍ مَعَ الْقَانُونِ الدَّوْلِيِّ، بِمُخْتَلَفِ مَصَادِرِهِ، لَيْسَ فِي برِيطَانِيَا فَحَسْب، وَلَكِن فِي أغْلَبِ بُلْدَانِ الْعَالَمِ. وهو ما دفع اللّورد Bingham سنة 2005 للقول أنّ "الْزَمَن تَغَيَّر بِشَكْل لَا يُمْكِن تَصَوُّرهُ (...) لقَدّ أَصْبَحَ الْقَضَاء الْوَطَنِيّ فِي هَذَا الْبَلَد وَغَيْرِه مِنْ الْبُلْدَان يَنْظُر فِي النِّزَاعَات عَبْر تَطْبِيق الْقَانُون الدَّوْلِيِّ وَتَفْسِيره لَيْسَ فِي قَضَايَا عَرْضِيَّة بَيْنَ الْحَيْن وَالْآخِر وَلَكِنّ بِشَكْل رُوتِينِي وَفِي أَكْثَر الْقَضَايَا أَهَمِّيَّةً..."[2].
وَيَبْدُو أَنَّ عِدَّة عَوَامِل أَعَاقَت تَدَخُّل الْقَضَاء الْوَطَنِيّ لِلدُّوَل فِي تَطْبِيق الْقَانُون الدَّوْلِيِّ لِحُقوق الانسان تَتَعَلَّق أساساً بِضَعْف السُّلْطَة الْقَضَائِيَّة مُقَارَنَةً بِبَقِيَّة سُلْطَات الدَّوْلَة، وَالْخَوْف مِنْ تَجَاوُز السُّلْطَة وَعَدَم إِلْمَام الْقُضَاة، عموماً، بِمَادَّة الْقَانُون الدَّوْلِيِّ عَلَى اِعْتِبَار أَنَّهَا لَا تَشَكُّل جُزْءً مِنْ تَكْوينهمْ الْأَسَاسِيّ مِمَّا يُؤَدِّي الى تَرَدُّدِهُمْ فِي اِسْتِخْدَامه. كَمَا أَنَّ الْمُحَاكِم الْوَطَنِيَّة عَادَةً مَا تَنَظُّر لِمُجْمَل الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَة بِالْقَانُون الدَّوْلِيِّ عَلَى أَنَّهَا ذَاتُ طَابِع سِيَاسِيّ مُتخليّةً عَنْ دَوْرهَا لِصَالِح السُّلْطَة التنفيذيّة[1].
إنّ التَّحَوُّلَات النَّوْعِيَّة الَّتِي عَرَفهَا الْقَانُون الدَّوْلِيَّ لِحُقوق الْإِنْسَان فِي الْعُقُود الْقَلِيلَة الْمَاضِيَة جَعلَت مَنْ تَدَخُّل الْمَحَاكِم الْوَطَنِيَّة فِي تَطْبِيق قَوَاعِد الْقَانُون الدَّوْلِيِّ لِحُقوق الْإِنْسَان وإنفاذها أَمْراً لَا مَفَرّ مِنْهُ عَلَى الْمُسْتَوَى الْمَفَاهِيمِيَّ وَضرورياً عَلَى الْمُسْتَوَى الْقَانُونِيِّ؛ فَالْعَدِيد مِنْ الصُّكُوك الدَّوْلِيَّة عَلَى غِرَار الْمُعَاهَدَات الْأَسَاسِيَّة لِحُقوق الْإِنْسَان لَمْ تُقَرِّر فَقَطْ حقوقاً وَاِلْتِزَامَات عَلَى عَاتِق الدُّوَل الْأَطْرَاف فِي مُوَاجَهَة بَعْضهَا الْبَعْض، بَلْ أَعْلَنَت كَذَلِكَ عَنْ حُقوق لِلْأَفْرَاد، تَحْمِيهَا الدُّوَل الَّتِي يَحْمِلُون جِنْسِيَّتهَا وَكَذَلِكَ الْمُجْتَمَع الدَّوْلِيِّ. فَالْأَفْرَاد لَمْ يَعُودُوا مُجَرَّد كَائِنَات سَلْبِيَّة لِلْمُعَاهَدَات الدَّوْلِيَّة لَا يُمْكِنهُم تَحْصِيل حُقوقهمْ إِلَّا عَبْر دُوَلهمْ؛ بَلْ أَصْبَحُوا أشخاصاً نَشِطِينَ فِي الْقَانُون الدّولي[2]active subjects of international law لتكرّيس مختلف حقوقهم. وأصبح من الرّاسخ في القانون الدّولي أنّ إلتزامات حقُوق الإنسان أصبحت التزاماتٍ في مواجّهة الكّافة erga omnes أيّ في مُواجهة المُجتمع الدّولي بأسرِه.
[2] Anne Orford, Florian Hoffmann, Martin Clark. The Oxford Handbook of the Theory of International Law. 1st edition. Oxford University Press. oxford. 2016. p.261-262.
Anne Peters. Beyond Human Rights: The Legal Status of the Individual in International Law. Translated by Jonathan Huston. Cambridge University Press. Cambridge. 2016. pp.07-32.
Andrew Clapham. The Role of the Individual in International Law. European Journal of International Law. Volume 21, Issue 1. 2010, pp. 26-30.
Portmann Roland. Legal Personality in International Law. Cambridge University Press. Cambridge. 2010. p.283.
Gérard Cohen-Jonathan. Les droits de l’homme et l’évolution du droit international. in:Clés pour le siècle. Dalloz. Paris. 2000. p. 611.