حاصل على المركز الأول لجائزة جامعة الدول العربية للقانون والقضاء لعام 2022
المقدمة:
إن الغاية من المحاكمات الجزائية هي الوصول إلى الحقيقة، وذلك لتحقيق العدل وضمان الاستقرار الاجتماعي داخل المجتمع. وفي سبيل تحقيق العدالة المنشودة تسعى الجهات القضائية دوماً إلى البحث على الأدلة ووسائل الإثبات التي من شأنها أن تساعد على تبرئة أو إدانة المتهمين، وذلك بالنظر إلى أن الجرائم تعتبر وقائع مادية غير مشروعة، يسعى مرتكبوها إلى التكتم عليها وإخفاءها وإزالة كل ما يمكن أن تتركه من آثار ومعالم يستدل منها عليهم، فتلجأ إلى الاستعانة ببعض الأشخاص، كالشهود الذين يتحصلون على معلومات تصادف وجودهم على مسرح الجريمة، تكون ذات أهمية كبيرة في إثبات الجريمة وتحديد شخص مرتكبها، لهذا يقال بأن "الشهود عيون وآذان العدالة"[1].
ونظراً لأهمية الشهادة، فإن الشاهد ملزم من الناحية الإجرائية بأداء الشهادة، وملزم من الناحية الموضوعية بقول الحقيقة والصدق عند أدائه لهذه الشهادة. وهذا الالتزام[2] يعرضه لجزاءات مختلفة إذا نكل عن أدائها أو زور في مضمونها. فصدق الشاهد هو السبيل الوحيد الموصل إلى الحقيقة التي هي أساس كل الأحكام الجنائية، وهي الغاية من شهادة الشهود. وهذه الحقيقة تعني في مجال الشهادة، مطابقة أقوال الشاهد للنموذج الواقعي لكيفية حدوث الواقعة الإجرامية، وطريقة ارتكابها، ومن اشترك فيها أو ساهم فيها، وكافة التفصيلات الأخرى كما حدثت بالفعل على مسرح الجريمة.
وفضلاً عن ذلك، فإن الجرائم قد تثير بعض المسائل من الناحية الفنية، الأمر الذي يستدعي الاستعانة بالخبراء ذوي الاختصاص لإبداء رأيهم بشأن مسألة ذات طبيعة خاصة تتطلب إدراكهم، إما بالملاحظة المجردة من خلال خلفية علمية أو القيام بأبحاث وتجارب فنية حسب طبيعة المهمة الموكلة لهم، وتقدم للقاضي في مجال الإثبات لمساعدته في تكوين قناعته نحو المسائل التي يحتاج في تقريرها إلى معرفة فنية، أو دراية علمية لا تتوافر لديه.
إضافة لذلك، إن القاضي في تكوين قناعته ينبغي عليه الاستعانة بفئة أخرى باعتبارها الشاهد الأول، وتتمثل في فئة الضحايا، والتي لم تكن تحصل على الاهتمام الكافي في الدعوى الجنائية، حيث كان جل الاهتمام منصباً على ملاحقة مرتكب الجريمة والقبض عليه وتقديمه للمحاكمة، دون التفات حقيقي لإصلاح أثر الجريمة وتحسين حالة ضحية الجريمة.
إذ لم يكن هناك اهتمام بالضحايا إلاّ في نطاق ضيق، لكونهم مصدراً للمعلومات ومبلغين عنها ليس إلاّ، فقد كان التركيز فقط على محاولة تلبية احتياجاتهم المادية المختزلة في التعويض، رغم أنه مهما قيل من ضرر قد أصاب الدولة جراء الجريمة، فإن ما لحق الضحية من ذلك الضرر هو الأكثر شدة وجزعاً، وهو الذي اهتز مركزه في المجتمع بالاعتداء عليه.
[1] "les témoins sont les yeux et les oreilles de la justice".
JérémieBentham, traité des preuves judiciaires, t.1, bossange frères, libraires éditeurs, 1823,p.23.
[2] لكن إذا قلنا أن النظم القانونية يمكن أن تلزم الشاهد بالشهادة عن طريق التزامه بالحضور لأداء الشهادة، وتوقيع العقاب عليه من قبل السلطات المختصة في حال امتناعه عن أدائها، أو تخلفه عن الحضور، فإن هذا الأمر إذا كان يصدق بالنسبة للشاهد المعروف لسلطات التحقيق، إلاّ أنه لا يتحقق في حالة الشاهد المجهول الذي لا يعرف لدى السلطات المختصة بالتحقيق أو المحاكمة، والذي يقع عليه التزام ديني أو واجب أخلاقي واجتماعي بأن يتقدم إلى هذه السلطات بصفته شاهد، ويدلي بما لديه من معلومات تخص الواقعة محل الشهادة.